جارنا السارق

جارنا السارق

أسرعتُ من خطواتي باتجاه موقف الحافلة.. وحالما ظهر أمامي من بعيد أخذتُ أركز نظري بمن سبقني بانتظارها.. أول من لفت انتباهي رجل أربعيني ببطنٍ بارزة.. تسارعت خفقات قلبي.. واضطربت انفاسي لتفقد انتظامها
..أطرقتُ برأسي وأمسكتُ بحزام حقيبتي بقوة.. ثم اخترتُ الوقوف على بعد مسافة عن موقف الحافلة
..رغم وجود أناس آخرين ـ امرأتين وطالبة وشاب ـ إلا أن الأربعيني كان الوحيد الذي شعرتُ بوجوده
..كلّ خليةٍ في جسدي تشعر بقربه رغم بعده.. كل خليةٍ تتقلص.. تحاول الهروب
..مرّت الحافلة من أمامي ووقفت عند المنتظرين.. فكّرتُ للحظة بأن أدعها تغادر وأستقلّ الحافلة التالية
..لكني تذكرتُ تهديد المديرة التي ملّت تكرار تأخري عدّة مرات كل شهر.. للسبب ذاته.. ظهور رجل يشبهه
..ضغطتُ على أسناني وأرغمتُ ساقَيّ المتصلبة على التحرك
حين دخلتُ الحافلة بحثت عيناي عنه.. لأتجنبه قدر المستطاع.. كان يجلس في أحد المقاعد الأمامية.. كدتُ أفرّ هاربة.. لكني أطرقتُ بعينَي سريعاً وتعجلتُ في التقدم وأنا أحبس أنفاسي.. وأحاول تهدئة قلبي الذي يكاد ينفجر.. لقد
..ملّ هو الآخر.. ملّ الخوف
جلستُ في المقاعد الخلفية وبقيت عيناي تعود إلى الرجل بين لحظة وأخرى.. تتمنى أن ينزل كلما وقفنا في محطة..
لكنه لم يفعل.. بل أنا نزلتُ قبله
:حال وصولي إلى مركز عملي قالت السيدة نوال التي تدير مكتب الاستقبال والاستعلامات
.ـ لديكِ موعد مع مراجع بعد عشر دقائق، تعجلي في تغيير ثيابكِ وتجهيز الأدوات
أومأتُ برأسي وتوجهتُ إلى غرفة التبديل وارتديتُ الزيّ الأبيض.. قميض بأكمام قصيرة وبنطال.. يشبه زيّ الممرضات لحدٍّ كبير.. دخلتُ غرفتي الخاصة لاستقبال المراجعين وبدأتُ أجهز الإبر الصغيرة.. إبر العلاج الصيني.. كنتُ أرغب باستخدامها عليّ لبعض الوقت قبل استقبالي للمراجع.. لأهدئ من روعي واضطراباتي.. لكن الوقت لا يسعفني.. ملأتُ رئتَي بالهواء في محاولة بائسة للتخفيف من توتري.. ثم نهضتُ لأنادي المراجع.. فتحتُ :الباب وقلتُ
ـ السيد معين
:جاءني الردّ من أحد المراجعين
ـ هذا أنا
ثم نهض.. وللحظة انسدلت ستارات الظلام من حولي.. ولم أعد أشعر بوجود أي شيء.. حتى الجدران والأرض اختفت.. وحده هو من ظلّ واضحاً وضوح الـ.. كيف أقول الشمس وهو الظلام بنفسه؟.. كيف أشبّهه بشيء جميل وهو القبح بعينه؟.. لقد غيرته السنين.. بدا أكثر بدانة.. فقد الكثير من شعر رأسه.. وفقد لحيته وشاربه.. لم أعرفه من اسمه.. فأنا لم أسمع اسمه يوماً.. كل ما كنتُ أسمعه في السابق هو
"أبا خليل"
 
..سار نحوي.. وتمنيتُ ظهور الأرض.. لتبتلعني.. سار نحوي.. وتمنيتُ استعادة الإحساس بقدمَي.. لأهرب
:سار نحوي.. وتمنيتُ تفجّر قلبي المرتعب.. لينتهي هذا العذاب.. توقف أمامي وقال بابتسامة
ـ يبدو أنكِ تعرّفتي عليّ؟ يا لها من صدفة سعيدة
:تنفسي.. ستفقدين وعيكِ.. تابع وهو يضحك
ـ حين ذكرت الموظفة اسمكِ خطرتِ في بالي، لكنني لم أكن متأكداً من أن صاحبة الإسم ستكون ذاتها ابنة مصطفى النجار، أما الآن فأنا متيقن
:حين لم يجد ردّاً مني سألني
ـ ألن ندخل؟
ندخل؟.. إلى أين؟.. إلى الغرفة؟.. وحدنا؟.. يبدو أنه سئم من لوح الخشب الواقف أمامه.. فتجاوزني وسبقني إلى :غرفتي.. وكأنها ملكٌ له.. ثم بدأ يخلع قميصه.. نظرتُ إليه بذعر وأنا أقول بصوتٍ مبحوح
ـ ما.. ما الذي تفعله؟
ـ أقوم بالتعليمات التي أخبرتني بها الموظفة، إني أشكو من آلام في ظهري وأتيتُ من أجل جلسة للتخفيف منها
ثم استلقى على بطنه على السرير المخصص للمراجعين.. هل يريدني معالجته؟.. لمَ يتحدث إليّ بتلك الأريحية؟.. ألا يذكر شيئاً؟.. أم أنه يظنني لا أذكر؟.. أم أن الأمر لا يهمه أساساً؟.. نظرتُ إلى الباب وأنا أتردد في اغلاقه.. لكنني في :النهاية أغلقته.. ثم تقدمتُ إلى المقعد ذو العجلات وجلستُ عليه لأكون على جنب السرير.. تمتمت بصوتٍ مهتز
ـ صِف لي ألمك ومكانه
بدأ يصف ويلمس ظهره بيده مشيراً إلى الأماكن التي تؤلمه.. أمرته أن يدير وجهه إلى الجهة الأخرى بحجة متطلبات
السلامة.. والحقيقة أنني لم أحتمل رؤية وجهه
سحبتُ عربة الأدوات نحوي وأرتديتُ القفازين البلاستيكين.. ثم تلمستُ ظهره بحثاً عن النقاط المطلوبة لمعالجة آلام ظهره.. ثم أخذتُ الإبرة الأولى.. لاحظتُ ارتعاش أصابعي.. التقطتُ أنفاساً عميقة أهدئ فيها من رجفة يدي ثم بدأتُ عملي.. كان يشهق ألماً مع كل وخزة.. الأمر الذي زاد من ألم بطني وشعوري بالغثيان.. هكذا كنتُ أشهق حين يفاجأني بلمسة لم أستوعبها في صغري.. فكيف لفتاة ذات خمسة أعوام أن تفهم قذارة لمسات جارها.. وقسوته في بعضها.. كيف لها أن تفهم لمَ يقبلها بطرق لم تقبلها بها حتى والدتها.. لكن تلك الطفلة كانت تشعر بأن ما يحصل لم يكن طبيعياً.. وكانت تخاف.. تهرب إلى البيت كلّما رأته.. إلا أنها في بعض الأحيان لا تجد مهرباً.. بعض الأحيان ترسلها والدتها بالطعام إلى منزل الجار المخيف.. ولا تستطيع الرفض.. فماذا تقول لوالدتها؟.. إذ كانت هي ذاتها لا تعرف ما يحدث
:قطع سلسلة ذكرياتي المؤلمة بقوله
ـ إذن حدثيني، ما آخر أخبارك؟ هل تزوجتي؟
ارتعشت يدي وأنا أوخز الإبرة في ظهره فتأوه واهتز جسده تحت يدَي
ـ رفقاً يا ابنتي
:ابنتي؟.. إياك ومناداتي بهذه الكلمة أيها القذر.. فلقد تعقدتُ منها بسببك.. أجبته وأنا أشعر بالكره يفيض في داخلي
ـ كلا، لم أتزوج
ـ حقاً؟ كيف لفتاة بجمالكِ أن تكون عزباء؟
ضممتُ شفتَيّ وأنا أمنع نفسي من كسر الإبرة في ظهره
:قلتُ بقرف
ـ ماذا عنك؟ هل تزوجت بعد انفصالك من العمة سعاد؟
ـ نعم تزوجتُ مرّتين بعدها، لكنني منفصل الآن
:هل الزواج لعبة بالنسبة له؟.. أم أنهن كشفن قذارته ومرضه فهربن منه؟.. سألني بنبرة مقززة
ـ ألا تفكرين بالزواج؟ لا أظن بأنكِ تجنين ما يكفي من المال للعيش برفاهية، تزوجي من يوفر لكِ كلّ ما تتمنينه
ـ هل تقصد نفسك؟
:ضحك وقال
ـ لم أكن أفعل، لكني سأكون سعيد الحظ لو قبلتِ بي
الكذاب.. كان يقصد نفسه.. يفتح باباً ليتمّ ما بدأه في صغري.. لينهي ما لم يستطع انهاؤه في تلك المرة.. أغمضتُ :عينَي أقاوم شعور الغثيان.. رغم أنه يستحق أن أستفرغ عليه.. تمتمت وأنا أوخزه بإبرة أخرى
ـ كلا.. لا أفكر بالزواج
ـ ما رأيكِ بالزواج المؤقت إذن؟
ـ هل نسيت أم تتظاهر بالنسيان؟
ـ نسيتُ ماذا؟
ـ ما فعلته بي في صغري
:ضحك وقال
ـ يا لذاكرتكِ القوية، إذن أنتِ تذكرين
..يقولها بكل برود.. بمرح.. وكأن تلك الذكرى شيء مضحك
ـ وأنت أيضاً على ما يبدو
ـ لا تضخمي الموضوع، كان مزاحاً ولعب فقط
..حملتُ إبرة جديدة
ـ مزاحاً؟ لا أذكر بأنني كنتُ أضحك
:ضحك مجدداً
ـ إنسَي الأمر، ليس وكأنه حصل شيء فعلياً
..حرّكتُ يدي التي تحمل الإبرة.. لكن ليس نحو ظهره.. بل نحو رقبته
..ـ أنا لم أنسه أبداً.. أنا أعيشه كلّ يوم
ـ لا تبالغي ابنتي.. لم يكن الأمر بهذه الجدية
غرزتُ الإبرة في المنطقة التي درسنا عنها كثيراً لخطورتها.. لتجنبها.. لتجنب كارثة.. شعرتُ بجسده يرتخي.. ثم :بأنفاسه تتباطء.. لم يعد يُسمع له صوت.. وبعد دقائق لم يعد يُسمع له نفس.. قلتُ وقد فقدتُ الإحساس بكلّ شي
..ـ لقد سرقتَ مني طفولتي.. وشبابي.. لقد سرقتَ مني حياتي كلّها


 
Back to blog

Leave a comment