المتنمر

المتنمر

هندمتُ سترتي الرسمية وأنا أتقدم نحو المقر الرئيسي للحفل.. هذه المرة ارتديتُ ربطة عنق ليليق مظهري بعظمة الحفل.. ونسقتها مع فستان خطيبتي الفضي.. لكنها مرضت ولم تستطع القدوم معي
ـ أقسم لك بأنهم لو رفضوا إدخالي هذه المرة أيضاً فسأحوّل الحفل إلى مجزرة!
التفتُّ ناحية الصوت الذي غطّى على ضجيج الناس من حولي.. فرأيتُ شاب يمرّ من جانبي وهو يتحدث في الهاتف.. بدا منزعجاً واحمرار رقبته يفضح غضباً حقيقياً
ـ إنها المرة الرابعة يا همام! السنة الرابعة! لقد مللتُ الصبر والتأمل! كلّ ما أريده هو فرصة لرؤية المخرج علّني أقنعه بإعطائي فرصة! إلى متى سـ
صار بعيداً كفاية ليصبح صوته جزء من ضجيج المارّة ولم أعد أسمع ما يقوله.. لكن أناقته ـ أو شبه الأناقة ـ وكلامه يوحي إلى أنه ذاهب إلى الحفل هو الآخر.. الحفل الذي يضمّ مخرجين وممثلين.. وشخصيات معروفة ومهمة.. مثلي مثلاً
حال وصولي إلى البوابة استقبلني حارسَين أنيقَين وسألني أحدهما:
ـ أهلاً بك سيد بلال، هل أرسل من يركن لك السيارة؟
ـ أهلاً بك، لا حاجة لذلك، لم آتي بسيارة فالفندق قريب.
أومأ برأسه مبتسماً وفتح لي البوابة الكبيرة لأدخل..  خرجتُ من ضوضاء الشارع ودخلتُ إلى موسيقى هادئة ممزوجة بأحاديث خافتة للحضور الذين يتوافدون إلى قاعة الحفل
رحبّ بي العديد من الزملاء في مجال المحاماة.. لكن خلف الابتسامات الزائفة استشعرتُ حسداً وحقداً دفيناً.. كالعادة.. فكيف لشاب بعمري أن يتخطاهم بنجاحه ويجري خلفه كبار الشخصيات ليتكفل بقضاياهم؟.. لقد سمعتهم لأكثر من مرّة يفرغّون حقدهم بالتنمر على مظهري في ما بينهم.. فلم يجدوا أمراً آخراً لينتقصوا منه.. "ماذا أحبّت خطيبته به؟ أنفه يسحب هواء الغرفة كلّه!".. "وجهه يفسد الشهية، أتمنى ألّا يحضر وجبة الغداء معنا".. "أتعرفون بأنّ خطيبته أطول منه؟ كيف رضيت به؟".. ما لا يعلمون به هؤلاء هو أنني مع كل تنمر وانتقاص مني يزداد نجاحي.. فكلامهم لا يزيدني إلا رغبةً لأصبح أفضل منهم بكثير.. لأجعلهم يتمنون أن يصلوا ولو لجزء ممّا وصلتُ إليه.. لأزيدهم غيضاً وبؤساً
أما العملاء فكانوا يرحبون بي بصدق أكبر.. ليس لشخصي.. بل لامكانياتي التي يرغبون بها.. لبراعتي بفوز كل قضية مهما كانت صعوبتها
جلستُ على المقعد المخصص لي.. فتقدم النادل الأقرب إلى طاولتي بصينية عليها أنواع من المشروبات.. أخترتُ كأساً من عصير الرمان ثم أخذتُ أرتشفه ببطء وأنا ألقي نظرة على الحاضرين.. وبين حينٍ وآخر كانت عيناي تتوجه إلى البوابة الرئيسية حين تُفتح ويدخل ضيف جديد.. ربما كنتُ أتوقع رؤيته.. أو ربما كنتُ أنتظره.. ثم لمحته حين فُتح الباب مجدداً ودخل ضيف.. فرأيته خلف الضيف.. يتجادل مع الحارس.. احمرار عنقه ازداد عن قبل قليل.. وكان يحكّ أسفل ظهره وهو يحاول السيطرة على غضبه.. ثم انغلق الباب.. مرّت دقائق.. وعاد ليُفتح لضيف جديد.. وما زال ذلك الشاب يتجادل مع الحارس.. بانفعالٍ أكبر.. وما زلتُ في حَيرتي.. أين رأيته من قبل؟.. وجهه مألوف.. لكني لا أجد الذاكرة التي تربطني به.. حاجبَين كثيفين.. أنف رفيع ودقيق للغاية.. ربما الأنف من جعلني أتذكره.. فلطالما كنتُ أتمنى أنف كأنفه.. منذر.. زميلي في المدرسة.. أول متنمر عليّ.. وأطولهم مدّة.. وأكثرهم أذية
منذر الذي جعل أيام دراستي جحيماً.. والذي جعلني أفكّر بالموت عشرات المرات للأذى النفسي الذي تسببه لي.. الذي كان السبب بعدم مصادقة أي أحد لي.. فهو كان قد وضع قانوناً يمنع الطلبة من مصادقتي أو التعاطف معي.. قانوناً أتبعه جميع الطلبة كي لا يصبحوا ضحية مثلي.. لكنه هو أيضاً من جعلني أكتشف بأنني كلما تفوقت عليه وعلى الآخرين بشيء أكون قد زدته غيضاً وانزعاجاً.. فيزداد تنمره ومشاغبته.. فعلمتُ بأن وسيلتي الوحيدة للنيل منه هو بنجاحي.. بتفوقي عليه دائماً.. واتخذتُ ذلك درساً لي.. حتى وصلتُ إلى ما أنا عليه الآن
فقد أعصابه.. وتحوّل جداله إلى صراخ.. وكرّر حكّه لظهره عدّة مرات بشكل منفعل.. فنهضتُ بهدوء.. وسرتُ نحو البوابة.. عيناي على الرجل البائس.. اليائس.. الجزع.. يكاد يفقد الذرة الأخيرة من عقله.. قلتُ حال وصولي:
ـ منذر، ما الذي أخرّك؟
نظر إليّ باستغراب وآثار الغضب ما زالت واضحة على معالمه.. كذلك الحارسَين نظرا إليّ

فسألني أحدهما:
ـ هل تعرفه يا سيدي؟
ـ بالطبع أعرفه، إنه زميلي، كنتُ أنتظره
تلعثم الحارس:
ـ لكنه لا يملك دعوة سيدي
ـ لقد تمت دعوته في آخر لحظة ولم يستلم البطاقة، اسمحا له بالدخول من فضلكما
نظر الحارسَين إلى بعضهما بتردد.. ثم أومأ أحدهما وسمح لمنذر بالدخول.. تلاشت تعابير الغضب عن وجه منذر الذي سيطر عليه الذهول.. سألني حين دخلنا:
ـ من أنت؟ لا أظن بأنني أعرفك
ـ أنا بلال، ارتدنا المدرسة ذاتها في صبانا

عقدة جبينه أوحت بأنه لم يتذكرني.. وكأنه لم يحطم شخصاً في أيام دراسته.. قلتُ بابتسامة مجاملة:
ـ لا بأس، انتهز فرصتك وقم بما جئت من أجله.
ابتسم وقال:
ـ شكراً لك، لن أنسى فضلك يا بلال.
ومع كلماته أسرع إلى القاعة بلهفة.. وللمرة الأخيرة حكّ أسفل ظهره.. وعلمتُ لحظتها بأنه لم يكن يحكّ ظهره.. بل كان يثبّت سلاحه المخفي تحت السترة الرسمية.. ربما شيء في داخلي كان يعلم بخطورة هذا الشخص.. بخطورة يأسه.. ربما ذلك الشعور هو من دفعني للتدخل.. وانقاذ كلّ من في القاعة.. من ضمنهم المتنمرين.. وللمرة الألف أثبتُ لهم بأنني أفضل منهم.. وهذا يكفيني لأكون راضياً عن نفسي.. جلستُ على مقعدي من جديد.. وارتشفتُ عصير الرمان الأحمر.. وكأنه الدماء التي حقنتها

 
Back to blog

Leave a comment