اللقاء

اللقاء

شعرتُ بالابتسامة تتسلل إلى شفتَيّ أثناء تقدمي نحوها.. تجلس على الأرجوحة ذاتها.. الأرجوحة الشاهدة على ذكرياتنا منذ الطفولة.. الشاهدة على كل خلافاتنا ونزاعاتنا.. على صلحنا وضحكاتنا.. على أسرارنا واعترافاتنا.. الشاهدة على أجمل اللحظات التي جمعتنا.. حررت نفساً متحسراً على السنين التي باعدتنا.. فبدل أن تكون لقاءاتنا يومية أصبحت سنوية.. تأملتُ وجهها البريء وأنا أخطو خطواتي الأخيرة.. وكأنها لم تكبر يوماً.. ذاتها الطفلة التي سرقت قلبي منذ الصِغَر.. تبسّم وجهها حين انتبهت إليّ ولاحظتُ تورداً طفيفاً على وجنتيها.. لم تنهض.. فلم يكن يوماً من عادتها النهوض من مكانها حين أحضر.. وقفتُ أمامها ودسستُ يدَيّ في جيوب بنطالي الأسود لأقول بدعابة خافياً حقيقة مشاعري:
ـ الجميع ينمو ويكبر إلا أنتِ، متى ستصبحين امرأة؟
عبست وركلت التُربة بحذائها الرياضي حتى تناثرت على حذائي الجلدي، لكني لم أتزحزح من مكاني.. قالت وهي ترمقني بنظرة منزعجة:
ـ ربما نمَوتَ شكلاً، لكنك ما زلت تتصرف كالصبيان
أجبتها صادقاً:
ـ معكِ فقط
أشاحت بعينيها نحو الأرجوحة المجاورة متسائلةً:
ـ هل ستبقى واقفاً؟
حرّكت عينَيّ نحو الأرجوحة  التي تُعتبر مُلكي إذ أنني كنتُ أجلس عليها أكثر من جلوسي في منزل والدَيّ.. هززتُ رأسي بالنفي:
ـ كلا، تعلمين بأنها لم تعد مريحةً بالنسبة لي
أومأت برأسها واستشعرتُ الحزن في عينيها التي تأملت الأرجوحة بحسرة.. وكأنها تتمنى أن تبقى تناسبني إلى الأبد.. تنحنحت متسائلاً:
ـ إذن، أخبريني عنكِ
أطرقت برأسها وهي تداعب التُراب بحذائها.. ثم أجابت بخفوت:
ـ ماتت والدتي
فغرتُ فاهي بصدمة.. هل.. حاولتُ النطق بشيء.. لكن الصدمة عقدت لساني.. تابعت حديثها بهمس:
ـ ولم يعد لي أحد في هذه الدنيا
أرغمتُ نفسي على التحرر من صدمتي.. اقتربتُ خطوة وانحنيتُ عندها لأتمكن من رؤية وجهها المنخفض.. فاستقبلتني عينان تلمعان بالدموع.. أذكر أنني كنتُ أشتهي حرق الدنيا كلّما رأيتُ دموعها في صُغري.. ولم يتغير ذلك الأمر..
رفعتُ يدي أحيط بها وجنتها و استقبل أول دمعة بإبهامي.. همستُ لها:
ـ ماذا عني؟
رفعت أجفانها لتلاقي عينَي.. ثم أجابت:
ـ أنت لك حياتك.. عملك.. و مسؤولياتك
ـ و هل تظنين بأن تلك الأمور تفوقكِ أهمية؟
ـ لستَ ملزماً بي
ـ لم أكن يوماً ملزماً.. بل كان بقائي بجانبكِ باختياري.. كما هو الآن
 
 
Back to blog

Leave a comment